محمد عبد النبي: كاتبٌ ومترجم ومُدرِّب كتابة مصري، مواليد 1977، بمحافظة الدقهلية، خرِّيج كلية اللغات والترجمة، قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الأزهر، عام 2002، مُتفرِّغ للترجمة والكتابة. له العديد من الترجمات الأدبية وغير الأدبية، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة عن رواية "اختفاء" للكاتب الليبي البريطاني هشام مطر. أحدث رواياته "في غرفة العنكبوت" حصلت على جائزة ساويرس الأدبية، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية "البوكر" وحصلت ترجَمتُها الفرنسية على جائزة معهد العالم العربي في باريس. له سِتُّ مجموعات قصصية حصَدَت العديد من الجوائز، منها: شبح أنطون تشيخوف، كما يذهب السَّيلُ بقريةٍ نائمة، وكان يا ما كان. إلى جانب اهتمامه بتقنيات الكتابة وتعليم حرفيَّتها عبر الورش والكتابة، وصدر له في هذا الاتجاه كتابُه التعليمي: الحكاية وما فيها، وكتاب: في غرفة الكتابة، الذي يقارب مستويات مختلفة في الأدب والفن والحياة.
"أرادَ فؤاد أن يغتسل من نزيف المشاوير الضَّائعة والكلام المزيَّف وجداول المواعيد الأسبوعية فارغة المعنى، من ضجيج المقاهي واللقاءات وتَصَنُّع الفنَّانين والمثقَّفين المُقرِف، من أصحابه الذين شربوا من دماء بعضهم البعض حُبًّا وغيظًا، مُدمني الحياة ولصوص الكُتُب المَهَرَة، من أُمِّه وخوفها الخانق منه وعليه، ومشاجراتهما المتواتِرَة حول كل شيء، من "خُذ وهات" و"فينك يا عم و"تحت النظر" و"كلُّه بحسابه". أرادَ أن يترك وراءه المدينةَ الفاجرة وغواية الشوارع ونداءاتها الرخيصة على أرصفة البيع والشراء. الأغلال تشدُّه كل مرَّة إلى الفرحة الخاسرة، ولو توضَّأ بالنور ألفَ مَرَّة لَمَا وضع عنه أثر الأوزار والذنوب. فهل نسي ما قاله صديقه العجوز له، في حُلمهما السِّرِّي آخر مرَّة؟ "كما حطَّمتَ حياتَكَ هنا. في هذا الرُّكن الصغير، فقد حطَّمتَها في العالَم كله". هكذا؟! بلا أملٍ يا "كافافي"؟! نعم، وبلا يأسٍ يا أمير."
"قال وددتُ لو أهرب من هذا كلِّه. لكنه تعلَّم كيف يهرب من الكلمات إلى الكلمات، أن يُكفِّن الوردة الحيَّة في حروفٍ سوداء بلا رائحة ولا ملمس، وأن يستغني عن شجاعة الرحلة بلذَّة تخيُّلها. حتى جاء يومٌ ووقَعَت المعجزة، حقًّا وصدقًا، وبلا لُغة؛ إذ نبتت الأوراق الخُضر في أطرافه الأربعة، وشقَّت قدماه سطح الأرض وراحت تمتدُّ عميقًا، وارتفعَ رأسه نحو النور والهواء، وبدأ يرقص مع النسيم على غناء الطير ودغدغة النحل، يدور حول نفسه بذراعٍ مرفوعة تشيرُ لقلعة أبيه في السماء، وأخرى مُدلَّاة تشيرُ لبطن أمه على الأرض، تلك التي لا يحلم بها كثيرًا، لكنه سيرجع إليها مثل كل أبنائها في نهاية الرِحلة. وبين قلعة أبيه وبطن أمه يحاول أن ينسى نفسَه ليعثر على كل شيء. وإلى أن يحدث هذا، إلى أن يصير وردةً لا تدري ما هي، سيظل مبتسمًا لجُرحه المفتوح، عابرًا في ثقة السُّكارى من صفحةٍ إلى أخرى. "
شاقًّا طريقه في شارع منية السيرج مسليا نفسه بالحديث إلى ظله الوديع الماكر، أخذ عم أحمد يدفع عنه جيوش الصور والمشاهد والذكريات، لا لأنه ينفر منها ويصدها بل لأنها ترد إليه جماعات متداخلة ومتشابكة ومختلطة، وهو يريد استقبال كل منها على حدة ذكرى ذكرى ومشهدا مشهدا كما يجدر بروائي حصيف وماهر، ولكم من سيكتب كبمة النهاية؟ من هو الروائي بين كل هؤلاء؟ في دوَّامة مِن الحكايات الصغيرة والمشاهِد المتلاحقة، وبينما يستعيدُ الشيخ أحمد رجائي فصولَ حياته يوشكُ على وداعها، محاصَرًا بين شابين ظهرا فجأة في حياته، كأنما ليحاكماه، أحدهما له نفس اسم الشيخ، ويُنافسه على امتلاك زمام السرد في رواية حياته، كما ينافسه على حب الشابة الأخرى، مُنى، أيقونة الجمال والشؤم والهائمة في مدارها الخاص غير مكترثة للصراع بين الشاب والشيخ. نالت " رجوع الشيخ المركز الأول من جائزة ساويرس الثقافية 2013 ووصلت إلى القائمة الطويلة في جائزة البوكر، وهي الرواية الأولى لكاتبها، كما فازت روايته الثانية" في غرفة العنكبوت" بجائزة ساويرس كذلك، ووصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر. لا يزال عبد النبي يمارس الكتابة الأدبية والترجمة الأدبية التي نال عنها جائزة الدولة التشجيعية، إلى جانب التدريب على الكتابة السردية في ورش كتابة متوالية.
"لعلَّ تلك الليلة كانت سَهرتها الدّرامية الحقيقية والوحيدة، وليس هذا الحريق الذي يشبُّ في موضعٍ كلَّ يخمُد في آخَر كأنه طفل يلعبُ الغميضة مع رجال المطافئ. لكنها لم تدرك ذلك حالَ حدوثه، لم تدرك أنَّ سرقتها لخطيب صاحبتها ستكون أشدَّ مغامرات حياتها جنونًا. ظنَّت أنَّ الحياة لم تزل أمامها، وأنها ستقدِّم لها الكثير من العلاقات العابرة والليالي المجنونة. لم تَنَل الكثير من ذلك، سرعان ما تزوَّجَت كأنها تحتمي من الحياة ببيت وأسرة، أنجَبَت واشتغلت وكبرت، ثم انفصلت وتزوَّجَت من جديد، لكنها لم تنجب من جديد، وانتهت حياتها إلى مسلسل اجتماعي بليد، مسلسل من مائة حلقة لا يكاد يحدث فيها شيء. لطالما تركت نفسها للتيار، تمضي مع الرَّكب؛ فَقط لكي تُتركَ وحيدة. بذلت أقصى جهدها على الدوام، فقط لمجاراة التَّيَّار لا لتفوز بأي شيء، حتى وإن بدا كل مجهودها هذا، مقارنةً بنشاط الآخرين، تباطؤًا وخمولً. كانت تسايرهم لتبقى معهم، المهم ألا يكشف أحدٌ سرَّها، ألا يعرفوا حقيقتها، وأنها مجرد ضيفة عليهم، ولو خُيرَّتّ لفضَّلت الخروج فورًا من المظاهرة والابتعاد عن نهر الطريق والوقوف على الرصيف والاكتفاء بالفُرجة، كما تفعل الآن صباح كل يوم مع النسكافي أمامَ فظائع العالَم."